كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخبرني أبو الحسن عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال: حدَّثنا العباس بن الفضل المقري قال: حدَّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: حدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال: حدَّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عز من قائل: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره، ولا يلتفت من الخشوع لله {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} يعني الباطل والكذب {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] يعني من ماله {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يعني عن الفواحش، ثم قال: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يعني ولائدهم {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لا يُلامون على جماع أزواجهم وولائدهم {فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذلك} فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ {فأولئك هُمُ العادون} يعني المعتدين في دينهم {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس {وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يعني يحافظون عليها في مواقيتها، ثمَّ أخبر بثوابهم فقال: {أولئك هُمُ الوارثون} ثمَّ بين مايرثون فقال: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} يعني الجنة بلسان الرومية {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يموتون فيها.
أخبرنا محمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال: حدَّثنا محمد بن حماد البيوردي قال: حدَّثنا عبد الرزاق قال: أخبرني يونس بن سليم قال أملى علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرَّحْمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسمع عند وجهه كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ارض عنّا، ثمَّ قال: لقد أُنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة، ثمَّ قرأ {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} عشر آيات».
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} يعني ابن آدم {مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} أي من صفوة ماء آدم الذي هو من الطين ومنيّه والعرب تسمّي نطفة الشيء وولده سليله وسلالته لأنّهما مسلولان منه. قال الشاعر:
حملت به عَضب الأديم غضنفرًا ** سلالة فرج كان غير حصين

وقال آخر:
وهل كنت إلاّ مهرة عربية ** سليلة أفراس تجلّلها بغل

{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} حريز مكين لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها وهو الرحم.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَامًا} قرأ ابن عامر عظمًا على الواحد في الحرفين، ومثله روى أبو بكر عن عاصم لقوله لحمًا، وقرأ الآخرون بالجمع لأنّ إلانسان ذو عظام كثيرة.
{فَكَسَوْنَا} فألبسنا {العظام لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} اختلف المفسرون فيه. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة وأبو العالية والضحاك وابن زيد: نفخ الروح فيه.
قتادة: نبات الأسنان والشعر.
ابن عمر: استواء الشباب، وهي رواية ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد.
وروى العوفي عن ابن عباس: إنّ ذلك تصريف أُحواله بعد الولادة، يقول: خرج من بطن أُمّه بعد ما خلق فكان من بدو خلقه الآخر أن استهلّ، ثمَّ كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أُمّة، ثمّ كان من خلقه أن عُلّم كيف يبسط رجليه، إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلمَ، إلى أن بلغ ان يتقلّب في البلاد.
وقيل: الذكورة والأُنوثية، وقيل: إعطاء العقل والفهم.
{فَتَبَارَكَ الله} أي استحق التعظيم والثناء بأنّه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت.
{أَحْسَنُ الخالقين} أي المصوّرين والمقدّرين، مجاهد: يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين.
ابن جريج: إنما جمع الخالقين لأنّ عيسى كان يخلق، فأخبر جلَّ ثناؤه أنّه يخلقُ أحسن ممّا كان يخلق.
وروى أبو الخليل عن أبي قتادة قال: لمّا نزلت هذه الآية إلى آخرها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فتبارك الله أحسن الخالقين» فنزلت {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}.
قال ابن عباس: كان ابن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى عليه هذه الآية، فلمّا بلغ قوله: {خَلْقًا آخَرَ} خطر بباله {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فلمّا أملاها كذلك لرسول الله قال عبد الله: إن كان محمد نبيًّا يوحى إليه فانا نبىّ يوحى إلى، فلحق بمكة كافرًا.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} قرأ أشهب العقيلي لمايتون بالألف، والميّت والمائت، الذي لم يفارقه الروح بعد وهو سيموت، والميْت بالتخفيف: الذي فارقه الروح، فلذلك لم تخفف هاهنا كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} وإِنما قيل: طرائق لأن بعضهنّ فوق بعض، فكلّ سماء منهنّ طريقة، والعرب تسمّي كلّ شيء فوق شيء طريقة، وقيل: لأنّها طرائق الملائكة.
{وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} يعني عن خلق السماء، قاله بعض العلماء، وقال أكثر المفسرين: يعني عمّن خلقنا من الخلق كلّهم ماكنّا غافلين عنهم، بل كنّا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: إنّ من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم فتسقط فالله عز وجلّ {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] ولولا إمساكه لها لم تقف طرفة عين. قال الحسن: وما كنّا عن الخلق غافلين أن ينزل عليهم ما يجيئهم من المطر.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} ثمَّ أخرجنا منها ينابيع فماء الأرض هو من السماء.
{وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} حتى تهلكوا عطشًا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} بالماء {جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا} يعني في الجنّات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} شتاء وصيفًا، وإنّما خصّ النخيل والأعناب بالذكر لأنّهما كانا أعظم ثمار الحجاز وما والاها، فكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف، فذكر القوم ما يعرفون من نعمه.
{وَشَجَرَةً} يعني وأنشأنا لكم أيضًا شجرة {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ} وهي الزيتون، واختلف القُرّاء في سيناء، فكسر سينه أبو عمرو وأهل الحجاز، وفتحه الباقون، واختلف العلماء في معناه، فقال مجاهد: معناه البركة، يعني: إنه جبل مبارك، وهي رواية عطية عن ابن عباس، قتادة والحسن والضحّاك: طور سيناء بالنبطية: الجبل الحسن.
ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى عليه السلام، وهو بين مصر وأيلة، معمر وغيره: جبل ذو شجر، بعضهم: هو بالسريانية الملتفّة الاشجار، وقيل: هو كلّ جبل ذي أشجار مثمرة، وقيل: هو متعال من السّنا وهو الارتفاع.
قال مقاتل: خُصّ الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها، ويقال: إنّ الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان.
{تَنبُتُ بالدهن} وأكثر القراء على فتح التاء الأَوّل من قوله تنبت وضم بائه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء ولها وجهان:
أحدهما: أن الباء فيه زائدة كما يقال: أخذت ثوبه وأخذت بثوبه، وكقول الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي ونرجو الفرج.
والوجه الآخر: أنّهما لغتان بمعنى واحد نبت وأنبت، قال زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ** قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل

أي نبت {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} أي إدام نصطبغ به.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} وهي الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدىّ به الى العلم وهي من العبور كأنه طريق يُعبر إليه ويتوصل به إلى المراد.
{نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} قال ابن عباس: سمّي بذلك لكثرة ماناح على نفسه، واختلف في سبب نوحه، فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك حيث قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وقيل: لمراجعته ربّه في شأن أُمته، وقيل: لأنّه مرَّ بكلب مجذوم، فقال: إخسأ يا قبيح فأوحى الله سبحانه إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟.
{فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ} يتشرف {عَلَيْكُمْ} فيكون أفضل منكم فيصير متبوعًا وأنتم له تبعًا.
{وَلَوْ شَاءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا} الذي يدعونا إليه نوح {في آبَآئِنَا الأولين إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} جنون، نظيرها قوله سبحانه {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] ويقال للجن أيضًا: جنّة، قال الله سبحانه {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] وقال: {مِنَ الجنة والناس} [الناس: 6] يتفق الاسم والمصدر.
{فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {بِهِ حتى حِينٍ} يعني إلى وقت ما، وقيل: الى حين الموت، فقال لمّا تمادوا في غيّهم وأصرّوا على كفرهم {رَبِّ انصرني} أعني بإهلاكهم {بِمَا كَذَّبُونِ} يعني بتكذيبهم إياي.
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور فاسلك فِيهَا} فأدخل فيها، يقال: سلكته في كذا وأسلكته فيه، قال الشاعر:
وكنت لزاز خصمك لم أُعرّد ** وقد سلكوك في يوم عصيب

وقال الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ** شلًا كما تطرد الجمّالة الشردا

{مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ}.
قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلاّ من يلد ويبيض، فأما ما يتولد من الطين وحشرات الأرض والبق والبعوض فلم يحمل منها شيئًا.
{فَإِذَا استويت} اعتدلت في السفينة راكبًا فيها، عاليًا فوقها {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} قرأه العامة بضم الميم على المصدر أي إنزالًا مباركًا، وقرأ عاصم برواية أبي بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي موضعًا.
{وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا} وقد كنّا، وقيل: وما كنا إلاّ مبتلين مختبرين إيّاهم بتذكيرنا ووعظنا لننظر ماهم عاملون قبل نزول العذاب بهم.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي أهلكناهم وأحدّثنا من بعدهم {قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ} قال المفسّرون يعني هودًا وقومه {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ} نعّمناهم ووسّعنا عليهم، والترفة: النعمة، في الحياة الدنيا {مَا هذا} الرسول {إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظامًا} قد ذهبت اللحوم {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} من قبوركم أحياءً، وأعاد إنّكم لمّا طال الكلام، ومعنى وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون. اهـ.